أوغلَ قُتيبة بن مسلم حتى قَرُب من الصين . فكتب إليه ملك الصين . أن أبعث إلينا رجلاً من أشرف مَن معكم يخبرنا ونُسائله عن دينكم .
فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلاً ، لهم جَمال وأجسام وأَلسن وشعور وبأس ، فكلّمهم قتيبة وفَاطَنهم ، فرأى عقولاً وجمالاً ؛ فأمر لهم بعُدّة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الوَشي والرقيق والنعال والعطر ،وحملهم على خيول مُطَهّمة تُقاد معهم ودواب يركبونها .
وكان هُبيرة بن المُشَمْرَج الكلابيّ مفوّهاً ، فقال له : يا هُبيرة ؛ ماذا أنت صانع ؟ قال : أصلح الله الأمير قلْ ما شئت أَقلْه وآخذ به ؛ قال : سيروا على بركة الله وبالله التوفيق ، لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد ، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأجبي خراجهم .
فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج ، فلما قدموا أرسل إليه ملك الصين يدعوهم ، فدخلوا الحمّام ثم خرجوا ثم خرجوا فلبسوا ثياباً بيضاً تحتها الغلائل ، ثم مسوا الغالية ، ولبسوا النِّعال والأردية ، ودخلوا عليه ، وعنده عظماء أهل مملكته ، فجلسوا ، فلم يكلمهم هو ولا أحدٌ من جلسائه . فنهضوا .
فقال الملك لمن حضره : كيف رأيتم هؤلاء ؟ قالوا : رأينا قوماً ما هم إلا نساء ، ما بقي منا أحد حين رآهم إلا وجد رائحتهم .
فلما كان الغد أرسل إليهم ، فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف ، وغدوا عليه ، فلما دخلوا عليه قيل لهم : ارجعوا . فقال لأصحابه : كيف رأيتم هذه الهيئة ؟ قالوا : هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال .
فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم ، ولبسوا البيض والمغافر وتقلدوا السيوف ، وأخذوا الرماح وتنكّبوا القسي ، وركبوا خيولهم وغدوا . فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلةً ، فلما دنوا ركزوا رماحهم ، ثم أقبلوا مشمّرين فقيل لهم قبل أن يدخلوا : ارجعوا ، لما دخل قلوبهم من خوفهم .
فانصرفوا فركبوا خيولهم وحملوا رماحهم ، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها ، فقال الملك لأصحابه : كيف ترونهم ؟ قالوا : ما رأينا مثل هؤلاء قط .
فلما أرسل إليهم الملك أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم ، بعثوا إليه هبيرة ، فقال له حين دخل عليه : قد رأيتم عظيم ملكي ، وإنه ليس أحد يمكنكم مني وأنتم في بلادي ، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي ، وأنا سائلك عن أمرٍ فإن لم تصدقْني قتلتكم .قال : سلْ ، قال : لما صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث ؟ قال : أما زيّنا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم ، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا ، وأما اليوم الثالث فزيّنا لعدوّنا ، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا . قال : ما أحسن ما دبرتم دهركم فانصرفوا إلى صاحبكم ، فقولوا له ينصرف ؛ فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه ، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه .
قال له : كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ! وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليهاوغزاك ؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل ، فلسنا نكرهه ولا نخافه .
قال : فما الذي يرضي صاحبك؟ قال : إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويعطى الجزية . قال : فإنا نخرجه من يمينه ونبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ونبعث إليه بجزية يرضاها ؛ ثم دعا بصحاف من ذهب فيها تراب ، وبعث بحرير وذهب ، ثم جزاهم فأحسن جوائزهم ؛ فساروا فقدموا بما بعث به فقبل قتيبة الجزية ووَطِىء التراب .