لكل رحلة سفر موقف أو عدة مواقف تنحفر أحداثها في الذاكرة بل قد يكون فيها عبرة تعود بالفائدة ولأن في ذكرها طلب لاغتنام الفرصة التي أمامنا فقد قررت أن اكتب عن الموقف أو الجزء الذي أثارني وأبكاني وجعل دموعي تتساقط وتتحرك مشاعري من غير إرادتي لأقبل رأس ذك الشيخ الجليل ,فمن باب أن الرحال لا تشد إلا لثلاثة كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم, ولأن في السفر عدة فوائد كما اجمع العلماء على ذلك , ولأن مدرجات الدراسة وطاولات العمل أخذت غالب وقتي وزهرات الشباب فنسيت نفسي معها ولم انتبه لها لأن اغلب رحلاتي كانت للعمل وليس للترفيه ,ولأني دخلت حياة جديدة فقد قررت أن أجهز رحلتي واستعد لها لزيارة بعض الأقاليم والبلاد البعيدة ,فكانت محطتي الأخيرة كما خططت لذلك مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ,فقضيت فيها أمتع وألذ وأروع الأيام , فكان وقتي مقسم بين الفندق للراحة والذي اخترته أمام الحرم وبين الروض للصلاة والتلاوة والعبادة وبين ساحات الحرم للتفكر في من جمعهم هذا الدين من شتى بقاع الأرض وبين معالم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأسواق للتسوق , وفيها كان الموقف , فبعد أن خرجت من صلاة المغرب وقعت عيناي على ذك الشيخ الجليل وقد لف حول عنقه كفنه الأبيض ليجعل جزء طويلاً منه يتدلى حول خصره ليلفه مره أخرى ليتدلى حول ركبتيه ,و كان يحمل بيمينه كيسا فيه بعض الأشياء فأثارني الفضول لأسرع في خطواتي للحاق به , وبعد أن اقتربت منه اتضح لي أن الكيس الذي كان يحمله يحتوي على مصحفا قام بتلبيس دفتيه بعض القماش ودفتراً وقلما للكتابة فزاد ذلك من عجبي وقلت في نفسي ماذا سيكتب هذا الشيخ الكبير الذي لم يتبقى في عمره الشيء الكثير ,فاقتربت منه أكثر وألقيت عليه السلام فرد علي بأفضل منه وسألته من أي بلاد الإسلام أنت فأخبرني بأنه أتى من دولة عربية تبعد كثيراً, ولأن كبر سنه يستدعي أن يكون في راحة وعناية!! ولأني كنت اجزم انه أتى هنا ليس للعمل بل لأمر آخر كنت اشك به, فقلت له لأتحقق من ذلك هل أتيت للعمل هنا أم ماذا؟ فأخبرني انه أتى هنا لطلب العلم في بيت رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى يد بعض المشائخ , فزاد عجبي ,ثم قلت له وكم عمرك فضحك وقال في أوائل السبعينات ,هنا وبدون إرادتي وكأنه أغمي علي غير أن هيئته الجليلة وقلمه ودفتره ومصحفه الملبس بالقماش في مخيلتي فأخذت بتقبيل رأسه وغرقت عيناي بالدموع بحرقة, ولسان حالي يقول شيخ كبير مع ضعف حالته المادية التي توحي بها هيئته أتى من أقصى البلاد لطلب العلم ونحن في تلك البلاد اقرب منه لها ضاعت زهور الشباب لكثير من الأبناء بين اختيار أنواع و موديلات (السيارات) لممارسة هواياتهم الغريبة التي ليس فيها ادنى فائدة وبين تقليب تلك القنوات الفارغة وملاحقة الغرب في تغريبهم لنا فضاعت سنوات العمر لكثير منهم . ثم ودعته , وبعد أن تقدمت عنه قليلاً ناداني وسألني هل معك (سيارة) لتوصيلي إلى مقر إقامتي فأخبرته أني زائر اسكن قريباً من هنا ثم عرضت عليه الخدمة لتوصيله فرفض فقلت له أريد أن اطلب لك سيارة على حسابي لتوصيلك كل يوم إلى هنا فرفض, وقال معي المال الكافي ولكني كنت أريدك أن توصلني وأدفع لك الأجرة فابتسمت وحلفت عليه بأن اطلب له سيارة أجره وادفع له الثمن مقدماً لتوصيله كل يوم فرفض بشده ودعي لي بالتوفيق , فذهبت لفندقي القريب ولم اذكر كيف أني قطعت الطريق من شدة الموقف لأن عقلي لازال واقفا في ذك المكان الذي التقيته به حتى لحظة نثر هذه الحروف.